من الفطرة الاهتمام بالمهمة والاستعداد لها قبل مجيئها،كي لايفوت أوان الفرصة ولا يحرم الانسان من رحمتها،وقدوم رمضان أفضل رحمة من عندالله لأن الله تعالى لم يعين جزائه بل قال أنااجزى به كما جاء فى الحديث الشريف :"الصوم لي وأنا أجزي به"اذا الصوم عبادة لا مثيل له ،لذا تستقبله الأمة الاسلامية فى أنحاء العالم و تنتظره بكل الحماسة و القوة مع الفرح والسرور، و يستعدون له ذهنا و فكرا ويبذلون جهدهم لكسب رضا ربهم سواء من الدول الاسلامية أو غيرها ، لكن هناك فرق فى العادات و الطقوس لاستقبال رمضان و قضائه بين الدول الاسلامية وغيرها بسبب الفروق الحضارية .
والدولة الهندية (كما تعرف)دولة ديمقراطية ،ملتقى الثقافات ،ومفترق الحضارات،و حاضنة الطقوس و العادات ،وثاني أكبر دولة بحسب عدد السكان،يشكل فيها الهندوسيون نسبة عملاقة والمسلمون نسبة ضئيلة ١٥٪ )لذا تمتاز الدولة في رمضان بالعادات الأنيقة و الأفعال الغريبة ،وتظهر فى رمضان الأخوة الأنسانية ،والتضامن ،والتراحم ،والتسامح،أكثر من الأشهر الأخرى.
يمكن لك أن ترى شعبا يعيش مع العادات الجميلة ،والفكرة الأنيقة ،فيبذلون جهدهم لتعود الى بلادهم حمائم الاخاء والمحبة،ولتنزح منها هامات الشؤم والظلام ،وينفقون أموالهم لتبعد منها أزمة الفقر والفاقة ،ويؤثرون الانسانية على المذهب والديانة ،ويقيمون دعوة افطار فى الميدان و الساحة ،وبدعون فيه الهندوسين ،والسيخين من مختلف الديانة ،وأنهم يلبون الدعوة مع التقديم الهدايا والكرامة ،وهذه الدعوة يدخل فى القلوب بذر الرحمة والسلامة ،التى يؤدي الى التعامل مع بعض بالعطف والحنانة .
ويمكن لك أن تري المساجد والبيوت مزينة بالأضواء المختلفة واللمعان،بعد مرور نصف شعبان الأمهات والجدات يقمن بتنظيف البيوت والملابس،وكل ما تملك الدار من أدوات منزلية من سخانة ،و ثلاجة ، وخلاطة ،ينظفن كلها بالدقة و العناية ويحددن يوما لهذة العملية الرمضانية ،حتى يشترك فيها الأطفال ،والرجال بوسع القوة الجسمانية ،والرجال يقومون باصلاح المساجد و تنظيف الشوارع .
هذه العادة تختلف بحسب المناطق وتظهرأكثر فى المناطق التى تتميز بأغلبية المسلمين مثل :بنغال ،بهار ،أترابراديش،كيرلا،آسام ،حيدر آباد و هذه جميلة لأن العبادة تذوق لذتها اذا كانت الأماكن و الأضواء صافية و نقية .
ثم المهمة التالية هي تجهيز أدوات الأطعمة ولوازمها من الدقيق والقمح والأرز، يعني الكل يصر على أن تكون في بيته أيام رمضان أشياء جيدة وجديدة وطيبة، احتراما وتوقيرا لهذا الشهر العظيم، وهذه العمليات كلها تجري تحت إدارة نساء البيوت، وأما الرجال والشباب مهمتهم وخدمتهم تتركز في ترميم المساجد والمدارس، وفي تنظيفها وتفريشها، وفي تنظيم الدروس الدينية والمحاضرات القرآنية والمسابقات التي تعد الفائزين المتفوقين جوائز مالية وهدايا كريمة، ولا نخطئ لو قلنا إن هذا الشهر سيشهد لنشاطات اقتصادية عملاقة في جميع العلاقات التي يسكن فيها المسلمون، ولا يظن أحد في إنفاق ما لديه لتطريز هذه الأيام المباركة، فتكون مهمة الخطباء الدينية والوعاظ استنهاض همم السامعين الراكدة، وتشعيل أفكارهم بحجم المسؤولية الموكلة عليهم، وتذكريهم وتوعيتهم عن فضائل رمضان، وعن الدروس التي لا بد للمسلم اقتناءها واعتناءها.
ثم إذا جاءت ليلة التاسع والعشرين من شعبان، كانت أعين الجميع ترمق نحو السماء، في وجوههم يبرز مدى الشوق الذي يخامر روحهم ويمتزج في قلبهم، يبحثون عن كسرة قمر تحييهم بقدوم ضيف الرحمان، فإذا لم يستطيعوا لرؤية هذه اللحظة النادرة لجأوا إلى أفواه القضاة والحكمة الشرعيين، فالهند معظم مسلميها يعتمدون على القضاة الشرعية التي لهم الحق في إعلان بداية الشهر الجديد، وأحيانا تثار الخلافات بين من يدعون أن رؤية الهلال تكفى لها الحساب الفلكي وبين من يثبث ويدحض حجته بواجبية الرؤية بالعين وإلا بإتمام الشهر بثلاثين، وقد حدثت واقعات غريبة في أرض الهند، إذ اختلفت الفئتان حتى صام واحد وترك الآخر، وهذه المشكة إنما يكبر حجمها في تحديد يوم العيد، حتى أدت بعض الخلافات إلى نشوب اشتباكات دموية.
والشرف الكبير لدولة كهند -ملتقى الثقافات ومفترق الحضارات وحاضنة الطقوس والعادات- ينبع من جانب الحكومة نفسها، إذ الحكومة تتشرف بالتوافق والتعاضد مع رعاياها المسلمين، وكذلك ترى لك إقبالا كبيرا من زعماء السياسة المختلفة، حتى بينهم من ينتمون إلى حزب هندوسي متطرف تحتفل بعظمة هذا الشهر وتهنئ به، بل مزيدا على ذلك تقيم الأحزاب رغم فكرها المخالف والمتشدد موائد رمضانية وترحب إليها جميع المسلمين، وهذه المظهرة النادرة حكر على الهند.
ولا ينكر أحد دور المسلمين في تصميم حضارة الهند وفي تعميرها حاضرا وماضيا، ودورهم الفاعل في بناء المدن ورعايتهما أمثال دهلي وحيدر آباد وآغرا وكلكاتا، وممباي، فلأجله ترى الجو الرمضاني في هذه المدن بارزا متألقا، قناديل معلقة وفوانيس وضاءة التي توحي إليك نور الأمل وتبعث بين جوانحك أشواقا متلهفة نحو حياة من جديد، وأناشيد تدوى وتعلو أصواتها الخافتة من المقاهي والكافتيريات، وأغاني هادئة ووادعة تنبع من شفتي المسحراتيين، لديهم دفوف، يضربون عليها وشفاهم مرطبة بأنشايد توقظك وتنسي همك وكسلك، وإلى جانبه هيئات دينية وجمعيات خيرية مختلفة، تتبنى أفكارا متضادة ومتناقضة فيما بينهم تتنافس في إقامة موائد رمضان لاستقبال ضيوف الرحمان، وتنفق عليها أموالا باهظة، وتسعى في مواساة الفقراء ومساندة الملهوفين.
وأما من جانب الأطعمة الرمضانية وهناك قائمة طويلة تزكم في أنفك رائحة فياحة، ونكهة بواحة، قائمة طويلة تتضمن فيها أقداح القهوة والشاي والهريس وبرياني وغنجي، وأطباق الحلاوي الطازجة والعصائر الممتزجة بلباب البرتقال والتفاحة والتمر والجوز، فالأطعمة الهندية تمتاز بتوابلها الحارة التي هي ألوان من الفلفل والكركم، والتمر الهندي،والقرفة وغيرها التي تذهب بك إلى أطعمة حرفية، وقد استطاعت هذه التوابل المثيرة لتسحر أعين العرب منذ أن صدروا من بلاد الهند فلفلا وزنجبيلا وذاقوا من حضنها ذوقا جميلا، وهناك بون شاسع في اختيار الأطعمة بين شمال الهند وجنوبها، بينما يختار شمال الهند طعاما يليق بجوه الذي يتردد بين حار وبارد، وأما جنوب الهند لاعتدالية جوه ولتشوق أهله نحو التوابل والحلويات يتكثف استخدامها بحد كبير، لا سيما في منطقة مليبار التي هي شمال كيرالا تختص بعدة خصائص مهمة، إذ مناطقها معروفة في طهي الحلويات واللحوم، وفي تجهيز أطعمة من الأرز بشتى الألوان والعناوين، بشتى الأشواق والأذواق، نساء مليبار لهن ملكة راسخة في تدبير المطاعم الرمضانية، وليس للرجال فيها أي دور يذكر.
ومن أجمل مظاهر رمضان الهند أطفالها الذين لا يملكون التصنع والتقنع، يتقاذفون نحو المساجد مثل الجراد المنتشر، وينجذبون إلى صلواتها الخمس والتراويح جماعة، وأحيانا يقوم بعض الأثرياء بتوزيع الهدايا والجوائز للأطفال الذين واظبوا وتعودوا المساجد تشويقا وتحفيزا على أداء الصلوات والعبادات، وأحيانا تجري منافسات بينهم في ممارسة الصوم في سن مبكر، ويخجلون في الطعام والشرب أيام رمضان احتراما وتكريما وهم لم يصلوا إلى سن البلوغ، وأكثر حديثهم يدور عن عدد الصيام، "أنا صمت اليوم"، "أنا سأصوم غدا"، هكذا تجري محادثات صافية مصقولة، أصيلة، وأما الأمهات فلهن اليد الطولى في تربية الأولاد والبنات في شأن الصوم، ولا يقتصرن في أداء هذا الواجب الديني، وتظهر هذه القوة النسوية في تدبير أولادها ومنعها من متابعة المسلسلات والأفلام، وكأن التلفاز ستنحى من جادة الحياة وكأنها في إجازة شهرية.
وأما من الجانب الاجتماعي فللصوم هيمنة كبيرة في كبح جماح العنف والاختلاف، يتناسى الجميع ويدفن أشواك المشاجرات والخصومات، ويسعون في نسج علاقات جديدة تنشأ من الود والوفاء، يبتعدون من الشتم واللوم، مع أن الهند شأنها وعادتها مضطربة أي اضطراب لا سيما في المجال الديني، فللاختلاف فيه أثر كبير في تجريح الآخر وتبريحه، لكن إذا جاء رمضان هدأ الغبار وابتعد النفار والشرود، فتبسم الوجوه التي كانت ضامرة من العنف والوجد، وتشرق الشموس التي كانت كاسفة البال، وتنقشع الغمام عن البدر المنير الذي كان تختفي في عمق القلوب، فتلك مظاهر هندية تليدة، فقط تبنيها أيام رمضان، فقط تحميها أحلامه ولا يقتصر جو رمضان في سماء الهند على مساجد معمورة بالقرآن ومضاءة بالقناديل ولا على موائد باسمة بألوان الأطعمة بل قدوم رمضان هو قدوم المسرات والأمن،والأمان ،هو نزول المطر فى أرض مجدبة حنت الى السماء جوادها ،فتجربتك فى الهند لا سيما فى أيام رمضان لمختلف تماما من باقى الأشهر التى تمضى وسط ضجات عارية و اضطرابات خاوية. فقط والسلام
تبصرے
ایک تبصرہ شائع کریں